محمد العريان يكتب: هل تستطيع حكومة المملكة المتحدة مواجهة التحديات الاقتصادية؟ – مصر بوست

محمد العريان يكتب: هل تستطيع حكومة المملكة المتحدة مواجهة التحديات الاقتصادية؟ – مصر بوست

كانت الحكومة البريطانية محقة عندما وصفت النوبة الأخيرة من تقلبات السوق في المملكة المتحدة، بأنها كانت مدفوعة أساسا بـ “عوامل عالمية” ، وخاصة ارتفاع عائدات السندات الأمريكية بشكل حاد.

كانت الحكومة محقة أيضا، في الإشادة بمدى نجاح أسواق المملكة المتحدة في التعامل مع الاضطرابات.

ولكن لا ينبغي لأحد أن يستخف بالتحديات الإضافية التي سيواجهها اقتصاد المملكة المتحدة في الأشهر المقبلة، أو نقاط الضعف البنيوية التي أدت إلى تفاقم ضَعفه، أو التدابير السياسية المطلوبة بشكل عاجل.

يعود الارتفاع الأخير في عائدات السندات الأمريكية إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها سلسلة من البيانات التي تشير إلى أن النمو الاقتصادي الفعلي والمحتمل يفوق التقديرات الـمُـجمَـع عليها، والتضخم الأعلى من المتوقع (إلى جانب ارتفاع كبير في توقعات التضخم من جانب المستهلكين).

والسبب الأخير تزايد حساسية السوق لإصدار السندات التي تأتي مع العجز الكبير والديون.

ولأن الاقتصادات المتقدمة تتنافس للحصول على التمويل من المستثمرين العالميين، فلن يكون من المستغرب أن يؤدي ارتفاع العائدات في الولايات المتحدة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في معظم البلدان الأخرى أيضا.

كان هذا التأثير واضحا بشكل خاص في المملكة المتحدة، مع ارتفاع عوائد السندات الحكومية لعشر سنوات بوتيرة أسرع من العوائد في الولايات المتحدة، وبهامش أكبر كثيرا من العوائد في منطقة اليورو. ولن تنخفض بدرجة كبيرة في أي وقت قريب، بل ربما تواصل الارتفاع.

وستكون النتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض التي تتحملها الشركات والأسر (بما في ذلك من خلال قروض الرهن العقاري) والحكومة ــ وهو التطور الذي سيقوض نمو الناتج المحلي الإجمالي.

لكن الأمر لا يقتصر على هذا.. فرغم العوائد الأعلى، إلا أن الجنيه الإسترليني عانى من انخفاض قيمته بوضوح.

هذا التطور ــ الذي من المحتمل أن نراه في البلدان النامية أكثر من الاقتصادات المتقدمة ــ من الممكن أن يزيد حدة الضغوط التضخمية.

ونتيجة لهذا، تتنامى المخاوف من حدوث ركود تضخمي، حتى رغم أن التحركات في أسواق الصرف الأجنبي كانت منتظمة نسبيا.
يمثل اقتران ارتفاع العائدات بضعف العملة، تحديا شائكا بشكل خاص، لأنه يعيق قدرة الحكومة على تنظيم الاستجابة على صعيد السياسة المالية والنقدية.

وتلتهم تكاليف الديون الأعلى الإيرادات الضريبية، ويتسبب هذا في تقلص الحيز المالي المتاح للحكومة، وربما يزيد من الحاجة إلى خفض الإنفاق وزيادة الضرائب وربما زيادة الاقتراض. وبفعل التأثير التضخمي المترتب على ضَعف العملة يصبح بنك إنجلترا أكثر ترددا في خفض أسعار الفائدة.

إلى جانب التوقعات الاقتصادية المباشرة، يلوح في الأفق سبب للقلق في الأمد البعيد. فرغم أن حكومة رئيس الوزراء كير ستارمر تعمل على تحسين الإنتاجية، وتعزيز الاستثمار، وتشجيع النمو الأسرع بشكل دائم، فإن الاقتصاد البريطاني يظل مبتلى بنقاط ضعف بنيوية طويلة الأجل تجعله عرضة للصدمات الخارجية. فإذا عَـطَـسَ أي مكان في العالم فإن المملكة المتحدة معرضة لخطر الإصابة بنزلة برد.

عمل كل هذا على تغذية صورة للاقتصاد البريطاني غير مشجعة على نحو مؤكد، ومفرطة في التشاؤم غالبا. وسيكون من الصعب زحزحة هذا التصور بأنها تحولت إلى مستنقع من النمو البطيء، وضَـعف الإنتاجية والاستثمار، وتدهور الخدمات العامة، والعجز المرتفع، والديون الضخمة.

في الواقع، وكما يتضح من تحركات الأسعار وتعليقات المحللين على حد سواء، لا تنسب الأسواق الفضل بالقدر الكافي للحكومة عن دورها في التعامل مع الفوضى الاقتصادية والميزانية الهزيلة التي ورثتها.

على هذه الخلفية، يتعين على حكومة ستارمر أن تقوم بعمل أفضل في توصيل ما تقوم به بالفعل لتحسين الظروف الاقتصادية في المملكة المتحدة ــ ويجب أن تبذل مزيدا من الجهد. يجب أن تكون رسائلها متسقة، ويجب أن تتصدى بشكل مباشر للشكوك واسعة النطاق والمفرطة التي طال أمدها حول الوضع الاقتصادي في المملكة المتحدة.

ويجب أن تأتي تدابير السياسات في الوقت المناسب وعلى قاعدة عريضة.

ورغم عدم وجود حل سحري من شأنه أن يحول آفاق بريطانيا الاقتصادية، فإن مجموعة واسعة من التدابير ــ التي تتجاوز الإسكان والتخطيط لتتناول بشكل أكثر شمولا البنية الأساسية، والبحث والتطوير، والإبداع، وتراكم المهارات، وإعادة تدريب العمالة ــ قادرة على إحداث الفارق.

ومن شأن تعزيز الروابط التجارية أن يساعد أيضا.

وتشير الحقائق السياسية والجيوسياسية الحالية إلى أن هذه الجهود قد تضطر إلى التركيز بشكل أكبر على أوروبا والولايات المتحدة، وبدرجة أقل على الصين.

فمن الممكن أن تصل هذه السياسات مجتمعة إلى نوع من الكتلة الحرجة، وعندها يصبح بوسع المملكة المتحدة أن تتراجع بشكل حاسم عن حافة حلقة مفرغة ذاتية التعزيز من ارتفاع تكاليف الاقتراض، وانخفاض قيمة العملة، واشتداد الضغوط التضخمية، وتباطؤ النمو.

لا ترغب أي دولة في السماح لتطورات خارجية بزيادة آفاقها الاقتصادية والمالية سوءا على سوء، وفي الوقت ذاته، الإضرار بمرونة سياساتها. يصدق هذا بشكل خاص على المملكة المتحدة اليوم، نظرا للتحديات الدورية والبنيوية التي تواجهها. ولكن بدلا من النظر إلى التقلبات الأخيرة في السوق بشكل سلبي قصرا، تحظى الحكومة بفرصة لوضع هذه التقلبات في إطار اللحظة المناسبة لتحسين فهم الجمهور لما تقوم به بالفعل لتحسين التوقعات الاقتصادية وتسريع وتوسيع نطاق جهودها.

المصدر: موقع “بروجكت سنديكيت”
بقلم: محمد العريان، رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج