الخطاب الانتصار

 الخطاب الانتصار

 الخطاب الانتصار

دكتور محيي الدين عميمور

عرفت خلال حياتي عددا من الخطب السياسية اهتزت لها جوانحي وتعلقت أنفاسي بكل كلماتها وحلقت روحي مع كل تعبيراتها، لكن خطاب “أبو عٌبيدة” مساء الأحد كان شيئا فريدا تضاءل بجانبه كل ما عشته خلال أكثر من نصف قرن، أداءً ومضمونا ورسائل بالغة التصويب محددة الأهداف، حتى ولو كان بعض ما لم يقله واضحا وضوح ما نطق به.
كانت الرسالة الأولى هي ظهور المتحدث نفسه بعد ما رددت الأصوات المنكرة المتشفية والمستهينة أن الكيان الصهيوني قضى عليه، لكن أبوعبيدة خرج علينا واقفا صارخا في وجه أشباه الرجال: أنا هنا لأنني أنا صوت الشعب الذي أراد الحياة، رغم أنف أعداء الحياة.
ظهر “أبو عبيدة” في أبهى حلة قتالية، واستعمل كوفية كان لونها إشارة بالغة الذكاء للنشامى من أبناء الأردن، وحافظ على لثامه ليذكر الأصوات التي كانت طالبته بجهاد السنن أنه جاهد بمضمون السنن وترك لهم ما يتعلق بالاستنجاء والاستجمار وعبادة السلطان.
ظهر العملاق الفلسطيني واثقا من نفسه متحكما في كل كلمة من خطاب دام نحو24 دقيقة، والذي ألقاه بلغة اعتز بها كل عشاق العربية، حيث كانت لغة جسّدت بلاغة الثائر ووقار المؤمن ورزانة المجاهد، ألقيت بصوت كان هدوؤه مُزلزِلا بدون افتعال أو انفعال،  كان قويا باترا حاسما مُعبّرا عن قوة الإيمان وصلابة العزم والثقة بالله وبالشعب وبالنفس.
وكان مضمون الخطاب رصينا محكم الصياغة، ابتعد عن البلاغيات المفتعلة التي أصبحت تثير التقزز والقرف، وتفادى أي إطناب أو استرسال أو شرود أو محسنات بديعية وغير ذلك مما برع فيه قادة آخر الزمان.
وكانت الرسالة الثانية أن “أبوعبيدة” لم ينطق طوال الخطاب بكلمة واحدة تؤنب المتخاذلين والمتواطئين والمتاجرين، والذين كانوا عار الأمة بل وجماهير العالم طوال 472 يوما، وتفوقوا في نذالتهم على ملوك الطوائف وعلى كل من عرفهم العالم في كل حروبه من خونة وأنذال.
وكان مضمون هذه الرسالة على وجه التحديد، والتي فهمها الرجال وأدركتها الحرائر، أن”أبوعبيدة” لم يُرِدْ أن يلوث هذا اليوم الخالد بأي كلمات تشير لمن يجب ألا يحاولوا النظر في وجوه من يُفترض أن يكونوا أبنائهم، بعد أن كانوا أقل ممن عيّرتهم يوما هند بنت عتبة.
ومن نفس المنطلق، لم تصدر عن المتحدث كلمة واحدة تسخر ممن كانوا يتغنون بالصبر الإستراتيجي ثم راحوا يتسابقون لإدعاء دور بطولي مزعوم وراء ما أنجزته المقاومة الفلسطينية ودفعت غزة الشهيدة أفدح ثمن عرفه التاريخ المعاصر من أجل انتزاعه، بدون أن ينجح العدو وعملاء العدوّ في دق إسفين الفرقة بين القوة المقاتلة والشعب الذي تمسك باحتضانها.
والمؤكد أن شعوبا كثيرة من بيننا ستتوقف طويلا عند مغزى الرسالة، ولعلي آمل أن يكون هناك من القيادات العربية من يراجع نفسه ومسيرته.
في الوقت نفسه كان “أبو عبيدة” واضحا ولبيبا، فلم ينسَ الإشارة للشعوب التي وقفت، أو حاولت الوقوف، دعما للمجاهدين، لكنه ركز على من كانوا مثيلا لأهل “بدر”، وإذا كان أعطى الريادة لأنصار الله، لكنه، وبذكاء واضح تعمد الإشارة بإيجاب إلى المشرق والمغرب العربيين.
وتأتي هنا الرسالة الثالثة التي يجب أن يتوقف عندها العالم بأسره، والذي وقفت قياداته بكل نذالة إلى جانب العدوان، وهي التذكير بأن المقاومة حاربت بأخلاق الفرسان بينما واجهها العدو بنذالة المجرمين وقطاع الطريق، وهو هنا يكشف للعالم بأسره أن إسرائيل فقدت هيبة الدولة التي لا تُهزم قط، وأكثر من ذلك  انهارت أخلاقيا، وخسرت إلى الأبد الصورة التي كانت تعطيها لنفسها كواحة للديموقراطية وكرائد للتقدم وراعٍ للسلام.
وهذا هو مصير كل من يدعمها حتى بالصمت واللامبالاة، وهو ما يفرض على العالم وقفة مراجعة للنفس وتصحيح للمسار.
فلقد سجل التاريخ أنه للمرة الأولى في تاريخ الحروب وقفت قيادات العالم الذي يزعم أنه متحضر ضد مدينة صغيرة، كان كل ذنبها أن شعبها رفض التخلي عن حقه في الحياة على أرضه، ومن هنا كانت الرسالة التي لم ينطق بها “أبو عبيدة”، أدبا وعفة، أن غزة وجّهت صفعة مدوية لكل القيادات السياسية في العالم، والقيادات العربية والإسلامية في المقدمة.
ولقد قاتلت المقاومة، بحقها التاريخي، جنود الاحتلال، لكن الكيان كان وحشا ضاريا بكل ما في الكلمة من معنىً، فقد صبّ جام” وحشيته على المدنيين، وزاد على ذلك بأن أعاد إلى الأذهان جرائم فرعون وهو يقتّل الأطفال.
ولن ينسى التاريخ تلك الصور الرهيبة لأطفالٍ من غزة، كانوا يكتبون أسماءهم على أذرعهم ليتم التعرف عليهم عندما تخنق أصواتهم البريئة قنابل العدو أو عندما ينتزع أرواحهم الجوع الذي يقف وراءه أشقاء كانوا أسوأ من الأعداء.
ومن مضمون هذه الرسالة يبرز واحد من أهم إنجازات طوفان الأقصى، وهو، بجانب السقوط الأخلاقي للصهيونية، السقوط النهائي لشعار “معاداة السامية”، الذي أصبح اليوم لدي الجماهير الواعية في كثير من أنحاء العالم مثارا للسخرية والاستهزاء، بعد أن كاد يكون أقرب، عند البعض ، أكثر قداسة من اسم ربّ العزة.
ولعل همسات كثيرة ترددت، تذكُر بالخير أدولف هتلر، بل وتعطيه ما لا يستحقه من التكريم، ولدرجة أن هناك من كان يلعنه لأنه لم “يُكمل “جميله.
لقد كانت غزة أكبر من العالم كله، وستكون النتائج فوق كل انتظار.
وإذا كان محسوب على الجنسية الفلسطينية قد نعق قائلا بأن الاتفاق لا يُساوي الحبر الذي كتب به، فقد أكد أن ما ينطبق عليه ذلك القول الأحمق هو الحبر الذي كتبت به شهادة ميلاده.
وعليه بالتالي أن “ينقطنا” بسكوته هو وأمثاله، تماما كما أن على الذين أطلقوا النار ضد مقاومي جنين أن يسهلوا علينا نسيان وجودهم.
 ويبقى أن على قيادات السلطة الفلسطينية أن تدرك بأن بلاغاتها المتخبطة وما تعلنه من أحلام مستقبلية يقضي على ما بقي لها من فتات الارتباط العاطفي بياسر عرفات.
ولا قرّت أعين الجبناء.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: